العيش في سويسرا مع اربع لغات رسمية

تعدد اللغات يشكل للسويسريين مصدراً رئيسياً للفخر الوطني، مثله مثل الالتزام بالكياسة والتهذيب بالنسبة للبريطانيين، أو التحلي بالأناقة والذوق الرفيع بالنسبة للإيطاليين. رغم ذلك – وعلى الطراز السويسري النموذجي – فإن هذا الفخرٌ يُبخس حقه دائماً أو يُعبر عنه على استحياء. إذ أن التباهي بالقدرات اللغوية لشخصٍ ما أو الحديث بتفاخر عن أي شيء مرتبط بهذا الأمر يُعد سلوكا “غير سويسري” البتة.

وعندما يفكر المرء في خطٍ حدودي، فإن ذهنه ينصرف عادةً إلى الترسيم السياسي للحدود، أي إلى وجود خطٍ صارم محدد، أو ربما حتى جدار يفصل بين دولتين. لكن ذلك لا يعدو نوعاً واحداً من الحدود، بجانب أنواعٍ أخرى من بينها حدود ثقافية ولغوية وذهنية.

ولا يوجد من يعلم طبيعة هذه الأنواع المختلفة من الحدود أكثر من السويسريين. فما لديهم يشكل مزيجاً من الحدود الثقافية واللغوية التي تتضافر وتتماسك معاً – على نحوٍ خارق – وتعمل بشكل مثالي، أو أقرب إلى المثالية، شأنها شأن أي شيء آخر في سويسرا.

الغريب أن هذا البلد يعاني من عددٍ محدود من الصدوع اللغوية، التي تسبب إزعاجاً كبيراً لدولٍ أخرى متعددة اللغات مثل بلجيكا وكندا. فكيف نجح السويسريون في ذلك؟

بالقطع يلعب المال دوراً في ذلك. فسويسرا من بين أكثر دول العالم ثراء، ولديها تقاليد عريقة في الحكم الديمقراطي، كما أن لديمقراطيتها طابعاً خاصاً من خلال الاستفتاءات الشعبية كثيرة العدد التي تشهدها، ونظامها الفيدرالي الذي يتألف من كانتونات، أو مقاطعات، تحظى بقدرٍ كبيرٍ من الحكم الذاتي.

وتنضوي كل هذه المقاطعات في إطار ما يسميه السويسريون بـ “فيللينسناتسيون”، وهو مصطلح يعني حرفياً “الأمة التي قررت أن تكون كذلك بمحض إرادتها”. ولكن هذا المصطلح يكتسب في سويسرا دلالةً خاصةً، توصل معنىً مفاده وصف شعب هذا البلد بأنه “أمةٌ نشأت وفي نفوس أبنائها رغبةٌ في العيش معاً”.

وكما هو معتاد، يمكن أن يفسر التاريخ الكثير. فتعدد اللغات في سويسرا يعود إلى قرونٍ طويلة مضت، أي قبل وقتٍ طويل من ظهور هذه الأمة الموحدة التي تعيش حالياً على أراضيها، تلك الأراضي التي تقع في نقطة تلاقي مجموعات لغوية عديدة، تشكل التضاريس الجبلية فواصل وحواجز طبيعية فيما بينها.

وهنا يقول لوران فلوتش، المسؤول عن متحف فيندونيسا للآثار الواقع في بلدية بروغ، إن سويسرا كانت منذ نحو 7 آلاف عام “في منتصف كل شيء وعلى هامش كل شيء أيضاً”.

“روشتي غرابِن: كيف اتحدت مكونات سويسرا معاً”. وبحسب الوقائع التاريخية، فعندما تشكلت سويسرا الحديثة عام 1848، كانت الحدود اللغوية قد حُدِدَتْ بالفعل على أراضيها.

ويوجد في سويسرا أربع لغات رسمية هي الألمانية والفرنسية والإيطالية والرومانشية، والأخيرة هي لغةٌ كان يتحدث بها الأبناء الأصليون للمنطقة، وتحظى بمكانةٍ محدودة، مشابهة للغة اللاتينية، ولا يتحدث بها حالياً سوى حفنة من السويسريين.

ولا يخلو الأمر من لغة خامسة هي الإنجليزية، وهي تلك التي تُستخدم باطراد في الوقت الحاضر، لجسّر الفجوة اللغوية بين المتحدثين بلغاتٍ مختلفة في سويسرا. وأظهرت دراسة مسحية أجرتها مؤخراً مؤسسة معنية باللغات أن ثلاثة أرباع المستطلعة آراؤهم قالوا إنهم يستخدمون اللغة الإنجليزية ثلاث مرات على الأقل أسبوعياً.

المفارقة أنه في سويسرا متعددة اللغات، يوجد حتى بداخل المقاطعات التي يتحدث سكانها لغةً ما واحدة انقساماتٌ لغوية كذلك. ففي المقاطعات الناطقة بالألمانية، تجد السكان يتحدثون ما يُعرف بـ”اللهجة الألمانية السويسرية” في أحاديثهم الخاصة، بينما يتعلمون الألمانية الفصحى في المدارس.

أما اللغة الإيطالية التي يتحدث بها سكان كانتون “تيسينو”، فتتضمن مفرداتٍ مأخوذة من اللغتين الألمانية والفرنسية.

ورغم أن اللغة التي يتحدث بها المرء قد لا تكون قدراً محتوما، فإن تأثيرها يفوق مجرد تحديد طبيعة المفردات التي يستخدمها. فاللغة تشكل محركاً للثقافة التي تمثل بدورها المحرك للحياة برمتها.

ومن هذا المنظور، يشكل “روشتي غرابِن” خطا حدوديا ثقافياً ولغوياً في الوقت نفسه. فالحياة تمضي على جانبيْ هذا الحاجز الخفي بإيقاعيْن مختلفيْن، حسبما ترى مانويلا بيانكي، التي تقول إن السويسريين الناطقين بالفرنسية يتسمون – في رأيها – بأنهم “أكثر استرخاءً. فلا يزال احتساء كأس من النبيذ الأبيض على الغداء خلال أيام العمل أمراً معتاداً”.

أما السويسريون الناطقون بالألمانية فلا يتمتعون – كما تقول هذه السيدة – بقدرٍ كبيرٍ من حس الدعابة “كما يتبعون قواعد تفوق في صرامتها، تلك التي يتبعها اليابانيون”.

لكن الفاصل الثقافي بين المناطق السويسرية الناطقة بالإيطالية، وتلك التي يتحدث سكانها لغاتٍ أخرى في البلاد، أكثر حدة. ويميز هذا الحاجز أو الفاصل ما يُعرف بـ”بولينتاغرابن” أو “خندق بولينتا”.

ويشكل السويسريون الناطقون بالإيطالية أقليةً ذات سماتٍ مختلفة عن سواهم من سكان البلاد، فهم يشكلون 8 في المئة فحسب منهم. ويعيش غالبية هؤلاء في منطقة “تيسينو” الواقعة في أقصى جنوبي سويسرا.

ويقول باولو كونسلافيس؛ وهو أكاديمي برازيلي عاش في هذه المقاطعة على مدى السنوات العشر الماضية، إنه أُبْلِغَ من جانب السكان عندما وصل إلى تلك المنطقة للمرة الأولى أن تيسينو تشبه إيطاليا تماماً، باستثناء أن كل شيء فيها يعمل بكفاءة. ويشير إلى أنه يعتقد أن هذه المقولة صحيحة.

ويشعر هذا الأكاديمي – القادم من دولةٍ فيها لغة رسمية واحدة – بالدهشة إزاء قدرة السويسريين على التعامل بأربع لغات، والتنقل فيما بينها بسلاسة. ويقول في هذا الشأن: “إن قدرتهم على التعامل بنجاح مع هذا الأمر، لرائعٌ بحق”.

ويتذكر مشاركته في مؤتمرٍ حضره سويسريون يتحدثون الفرنسية والألمانية والإيطالية والإنجليزية، ما أدى إلى أن يشهد “في قاعة مؤتمرات واحدة، عروضاً تقديمية بأربع لغات مختلفة”.

ويقول كونسلافيس إن العيش في بيئة متعددة اللغات “يعيد وبحق تشكيل الكيفية التي أرى بها العالم، وتصور الاحتمالات والإمكانيات المختلفة (الكامنة فيه). أنا الآن شخصٌ مختلفٌ وعلى نحوٍ كبير مما كنت عليه قبل 10 سنوات”.

من جهة أخرى، يتفاوت نصيب كل لغة من اللغات الرسمية في سويسرا من حيث عدد السكان الذين يتحدثون بها. فغالبية كانتونات البلاد الـ 26 تتحدث الألمانية، بالتحديد 17 منها، بينما تتحدث أربع مقاطعات بالفرنسية وتنطق واحدةٌ بالإيطالية.

بجانب ذلك، هناك ثلاث مقاطعات يتحدث سكانها لغتين، بينما يتحدث سكان كانتون واحد – وهو غراوبوندن – ثلاث لغات. وتشير الإحصاءات إلى أن غالبية السويسريين – تحديداً 63 في المئة منهم – يتحدثون الألمانية كلغةٍ أولى.

فضلاً عن ذلك، فإن غالبية ما يعتبره العالم مرتبطاً بما يُعرف بـ “الطابع السويسري” – وهي خصالٌ وعاداتٌ مثل الدقة والتكتم والتحفظ ومراعاة الذوق – هي في واقع الأمر سماتٌ للسويسريين الناطقين بالألمانية. فاللغة التي يتحدث بها هؤلاء وثقافتهم تنزعان لأن يكون لهما موقعٌ مُهيمنٌ خاصة في عالم المال والأعمال.

ويسبب هذا الأمر بعض الخلاف والاحتكاكات، برأي كريستوف بوشي، وهو مؤلف كتابٍ عن تاريخ الحدود اللغوية الخفية في سويسرا. لكن بوشي يشير إلى أن الطابع العملي أو “البراغماتي” الذي يحكم السياسة السويسرية، قادرٌ على التعامل مع مثل هذه الأمور. ويخلص إلى القول إن “المصالحة” هي اللغة الوطنية الحقيقية السائدة في سويسرا.

نقلا عن بي بي سي ترافل

Related Post

Leave a Reply